الشاب مامي

عاد من المانيا بعد رحله العلاج الثالثة له خلال الخمس سنوات الأخيرة اعتدت فى هذه الفترة ان امضى معه ليلتا الخميس والجمعة حتى وجه الفجر رجع هذه المرة منهك ضعيف اكتر من رحلاتيه السابقتين لا يقوى علي مغادرة منزله ولا يفارق فراشه بسهوله رجع بعجز جزئي برجله اليسري ناتج عن أزالة الورم الملامس لأعصاب عموده الفقري، اجريت له جراحة او مجموعة جراحات غاية فى القسوة استأصل فيهم جزء ضخم من القولون والامعاء وغير مجرى البول والبراز الى كيس بلاستيكي ملاصق الي جسده مباشرةً مختباء تحت طيات ملابسه .. اصاب هذا الكيس بهنسي بحاله نفسية سيئة بسبب رائحته القذرة الذى يشعر بها هو طول الوقت. لم الاحظ ابدا انا هذه الرائحة لحرصه المستمر على نظافة هذا المعلق وتغيره يومياً
في تلك الليله دخلت غرفته فاستقبلني بالترحاب الشديد مردداً اسمي كما اعتاد ان يناديني به نوشا يانوشا يانوشا ثلاث مرات بنغمة ولحن واداء خاص به
نزعت حذائي وفى نفس اللحظة تحرك هو الى طرف السرير تارك نصفه لي، لأنخرط معه في مراقبة التليفزيون المواجه لسريره الذي في الاغلب ما يكون مضبوط على قناة اخبارية... لا يعنى آى منا ما يذاع عليها فهي مجرد أداة لكسر الصمت.
لم اعرف ابداً ما اذا كان هذا الورم حميداً ام خبيثاً ولم أجرء علي السؤال خوفاً من الاجابه. كل شئ حوله يوحى بأنه ورم قاتل تدهور صحته فى اخر سنه، العلاج الكميائى، سقوط شعره، أستأصل قولونه بالاضافة الي كم هائل من المسكنات .. ولكنه كان دائم التفائل. تفائل يبدد هذه الفكرة القاتمة.
والدته طنط فاطمة كما كنا نناديها يكسو وجهها حزن دائم ولكن هذا الحزن هو جزء من ملامحها فأنا أراه بين عينيها منذ كنا فى الجامعة قبل حتي ان يمرض بهنسي تدخل علينا الغرفة كل فترة اما بمشروب دافئ او بارد او فاكهة او بدواء وكوب ماء يتحول بهنسي فى لحظة الدواء الى طفل عنيد رافض للدواء ولتناوله وتظل هي تترجى وتتوصل وهو يقاوم ويرفض ينتهي الامر بتناوله الدواء... ذات مرة خرجت طنط فاطمة.. فسببت بهنسي لماذا تصنع هذا بها كل مرة الا تعلم اهمية وحتمية الدواء، اغبي انت، كما انك تعلم انك ستتناوله فى النهاية فلما تعذبها، انت طفل مدلل.
اشار لي على علبه بلاستيكية موضعه على طاوله صغيرة مليئة بالادوية بجوار سريره احضرتها له لم اكن رأيت هذه العلبة من قبل زرقاء اللون مقسمه سبع اجزاء بعدد ايام الاسبوع وكل جزء مقسم الى مربعات صغيرة مليئة بالاقراص المختلفة الالوان انها جرعاته اليومية من الدواء فى هذه اللحظة اغلقت فمى باحثاً بين جوانب روحي على طرف لحديث جديد أبدد به ما قلته قبل ثوان، لم اكن اتخيل كل هذه الادوية لم افهم ابداً أمضيت عشر دقائق أعنفه وانصحه نصائح الجاهل.
تلاشي الصمت تدريجياً وبدأ كلامنا يتسرب ليملئ  السكون مرة اخرى … فجأة سألني  بتحب الراى حركت رأسي حركه رأسية متكررة موحياً بنعم فقال لى هناك شريط للشاب مامى بجوار التليفزيون .. وضعت الشريط بجهاز التسجيل ضاغطاً علي زر التشغيل اغلق هو بدوره التليفزيون بواسطة جهاز التحكم من بعد بمجرد خروج صوت مامى تغيرت ملامح بهنسي بدت عليه علامات ارتياح وسعادة نسبيه اصطحب هذا التغير في ملامحه صوته وهو يقول "مامى ده جميل اول ما باسمعه مابحسش بأى وجع وكأنه مُسكن ... انا باموت فى الشريط ده".
كان لديه مُسكن قوى عبارة عن ملصق مستدير يلصقه على ظهره يستمر مفعوله لمدة يوميين او ثلاث ايام هذا الي جانب المسكنات الاخرى التى يتجرعها. جلب هذا الملصق معه من المانيا بكميه كبيره، نفذت بعد ٣ أشهر وبات علينا ان نتدبر عملية توفير هذا المُسكن فى مصر لم يكن سهل على الأطلق الحصول عليه فهو مدرج تحت قائمة المخدرات ولا يصرف الا بأذن كتابى من طبيب وحتى بعد الحصول على هذا الاذن لا نجده الا فى اماكن قليلة من ضمن هذه الاماكن صيدلية الاسعاف ومعهد الاورام فى القاهرة وهذه كانت مهمتى الاسبوعية بحكم اقامتى فى القاهرة.
بعد ان اعتدل مزاجه تذكر سيارتى الجديدة الذى اخبرته عنها فى الهاتف فقال صارخاً مبروك العربية … شجعتني حالته المزاجية الجديده الناتجه عن موسيقي الراي ان اقترح عليه الخروج الى الهواء فى نزهه بالسيارة الجديدة ليراها ويري البحر تردد كثيرا ثم وافق فى النهاية.
خرج من الغرفة ليغتسل ويغير كيس الفضلات المعلق على جسده، عاد الى بعد نصف ساعة بملابسه الملونه الانيقه وعصا بيده اليسري يتكأ عليها كانت المره الاول التي اري فيها عصاته، هممنا بمغادره الغرفة وقف فجأة قائلا "هات شريط مامى نسمعه فى العربية" اخذت الشريط ونزلنا ببطء الى الشارع فتحت له الباب وارجعت الكرسى الخاص به ليتمكن من فرد رجله اليسرى و وضع عصاته.
اغلقت بابه وركبت الى جواره وهو يردد بشكل متكرر وكأنه الة ما شاء الله ما شاء الله ما شاء الله..
تركنا كفر عبدو الى شارع ابو قير الى شارع سوريا ومنه الى البحر .. صمت بهنسي فتره ثم قال "مش قادر أتخيل انى مش ها سوق تانى" اجبته بأستغراب مصطنع "مش هتسوق تانى ليه يابن الهبلة انت"... "هسوق اذى برجلى دى" ... "عادى هاتسوق اوتوماتك ذى العربية دى" ... وفى نفس اللحظة دهست بقدمي كابح السرعة حتى توقفت السيارة تماماً وأمرته ان ينزل ليركب مكانى ويقود هو، ظل يعترض كثيرا جدا خوفاً على السيارة الجديدة وأنا اعترض على اعتراضه حتى وافق في النهاية نزل ببطئ جلس خلف عجله القيادة وعلى وجهه مجموعة متباينة من المشاعر والملامح.
ادار المحرك وبدأ يتحرك بسرعة بطيئة بعض الشئ و بدأت سرعته تزيد شئ فشئ وكأن ثقته تعود اليه بالتدريج.
فتح زجاجه تماما رفع صوت مامى اكثر ثم اكثر وبدأ يزيد من سرعته اكثر ثم اكثر وعاد بهنسي الذى اعرفه فى هذه اللحظات بسعادته و طفولته وجنونه فتحت انا الاخر نافذتى بدأنا نردد وراء مامى بصوت عالي سويآ وكأننا الكورال المصاحب له.
تحرك بغير وجهه على الكورنيش ذهاباً واياباً بين بحرى والمنتزه تسربت النشوة من نفسه الى نفسى انتهت الرحلة قرابة الفجر تحت بيته.
أصر ان يترك مامى فى سيارتى و أصريت انا ان لا أخذ مُسكنه اقسم وأقسمت لكنه انتصر فى النهاية غادر بهنسى السيارة فى هذه الليلة فى حالة غامرة من النشوة ثم غادر الحياة بعد هذا اليوم بأربعه اشهرتقريباً ولم يغادر مامى سيارتى حتى اليوم.
دونت في ٢٠١١

Comments

  1. انا ياسمين بنت اخت الشاب مامي و بنتة مش عارفة اشكرك اد ايه على اليوم دة حمودة حكالي و انا مكنتش بنام بعيد عنة و اليوم دة انا كنت مستنياه و رجع مبسوط و متفاءل و كان بيدعيلك و قاللي هاني انضف واحد في صحابي الوحيد اللي مش بينساني و على طول جمبي بجد انا مش عارفة اشكرك ازاي عشان انت منسيتهوش ربنا يرحمه

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

من مذكرات الرجل الاخضر

قطيع الماعز

رئة كبيرة